تزييف التاريخ- معركة وعي لاستعادة الهوية والمستقبل

المؤلف: أسامة يماني09.06.2025
تزييف التاريخ- معركة وعي لاستعادة الهوية والمستقبل

لم يخطر ببالي قط أن الأباطيل التاريخية والجغرافية التي تلقيتها في بواكير حياتي، كقصة «أن العرب كانوا مجرد رعاة إبل بدوًا، يفتقرون إلى الحضارة قبل مجيء الإسلام»، وهي الحقبة التي أطلق عليها المؤرخون اسم عصر الجاهلية، أو ما طالعناه وسمعناه من أن «الغزوات الإسلامية كانت مجرد اجتياحات بربرية همجية»، ستكون بهذا المقدار الهائل من التشويه والتزييف! لقد عمدت الآلة الإعلامية الغربية إلى تحويل هذه الروايات، من خلال أفلام سينمائية ضخمة مثل «المملكة السماوية» و«صلاح الدين»، إلى وقائع مزيفة لا تمت للحقيقة بصلة، في حين أن المستندات التاريخية الموثقة تشير بجلاء إلى أن مكة المكرمة والمدينة المنورة واليمن السعيد ومملكة كندة العريقة، التي ورد ذكرها في بعض النقوش القديمة، ومملكة تدمر الشامخة، التي تشهد عليها النقوش التدمرية المنقوشة بلهجة آرامية عربية أصيلة، وغيرها من الحضارات العربية الزاهرة؛ كانت مراكز تجارية وحضارية مرموقة، تنبض بالحياة والازدهار قبل بزوغ فجر النبوة، وأن الجيوش الإسلامية الفاتحة دخلت بلاد الشام وجمهورية مصر العربية بناءً على معاهدات استسلام محكمة، تصون حقوق السكان وتحافظ على ممتلكاتهم. هذه الحضارات العربية العريقة تجسد بجلاء أن العرب لم يكونوا مجرد قبائل بدوية متفرقة، بل أسسوا أيضًا ممالك متطورة ورائدة في مجالات الزراعة والتجارة وفنون العمارة قبل الإسلام بقرون مديدة.

ومن اللافت للنظر أن كتب التراث قد أضفت هالة من القدسية على أحداث طافحة بالدماء والمعارك والحروب والسياسات والمصالح الشخصية الضيقة. والأدهى من ذلك أن بعض المؤسسات التعليمية في عالمنا الإسلامي لا تزال تردد ببغائية مقولة «إن المسلمين نقلوا علوم الإغريق القدماء دون إضافة أو تطوير»، في حين أن الكتب والوثائق القيمة تثبت بالدليل القاطع أن العالم الجليل ابن الهيثم قد وضع الأسس الراسخة لعلم البصريات الحديث، وأن الخوارزمي الفذ قد وضع اللبنات الأولى لعلم الجبر، وأن ابن النفيس العبقري قد اكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل العالم هارفي بقرون عديدة! حتى خرائط الجغرافيا القديمة لم تسلم من التزوير والتحريف، فنجد أن «خطوط الطول والعرض» التي ندرسها اليوم ما هي إلا إسقاط «ميركاتور» الاستعماري الخبيث، الذي عمد إلى تصغير حجم قارتي أفريقيا وآسيا بشكل متعمد لإخفاء هيمنة الغرب وسطوته. ومما لا شك فيه أن بعض هذه المغالطات قد تكون ناتجة عن جهل أو تحيز غير مقصود.

ولا يمكننا أن نغفل كيف حول الإعلام الغربي الاستعمار البغيض إلى «مهمة حضارية نبيلة»، حيث صورت بريطانيا العظمى احتلالها الغاشم للهند على أنه «إنقاذ للهنود المساكين من براثن التخلف والهمجية»، في حين أن الوثائق البريطانية الرسمية نفسها تكشف بجلاء أنهم نهبوا ما يقرب من 45 تريليون دولار من ثروات الهند ومقدراتها! والأمر نفسه ينطبق على فلسطين الحبيبة، حيث يصورون الاحتلال الصهيوني الغاشم على أنه «إعادة بناء أرض خالية من السكان لشعب مشتت بلا مأوى»، على الرغم من أن الأرشيف العثماني والصور التاريخية الموثقة تثبت وجود مدن فلسطينية عامرة ومزدهرة قبل عام 1948.

حتى أن بعض المستشرقين الذين يقدمون أنفسهم كـ«محايدين وموضوعيين» مثل برنارد لويس، كتبوا بوقاحة أن «العرب لا يفهمون إلا لغة القوة الغاشمة»، في حين أن ابن خلدون العلامة قد شرح في مقدمته الشهيرة أن الحضارات العظيمة تسقط وتنهار عندما تتحول من العدل والإنصاف إلى الظلم والاستبداد! والأسوأ من ذلك أن بعض الجامعات العربية المرموقة لا تزال تدرّس نظرياتهم الباطلة على أنها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش.

التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث مضت وانقضت، بل هو هوية راسخة وشاهد صادق على الحق. وإذا سمحنا للآخرين بتدوين تاريخنا نيابة عنا، فكأننا نتنازل عن جزء لا يتجزأ من أرواحنا وهويتنا العريقة ومستقبلنا الزاهر.

اليوم، عندما نتأمل بعض الكتب القيمة مثل «الاستعمار.. الجريمة الكاملة» أو كتاب إدوارد سعيد الشهير «كيف تم تزوير تاريخهم»، ندرك أن المعركة الحقيقية هي معركة وعي وبصيرة نافذة. فهل سنستمر في تلقين الأجيال القادمة روايات المتحيزين من المستشرقين وغيرهم، أم نعيد كتابة تاريخنا بأنفسنا، بكل فخر واعتزاز؟ التاريخ ليس مجرد أحداث ولت، بل هو سلاح هوية فعال.. فمن يمتلك زمام الماضي يسيطر بالتبعية على المستقبل المشرق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة